الصحافة العراقية.. رحلة متوّجة بالتضحيات
الصحافة العراقية تحتفل اليوم بعيدها مع مرور (146) عاما على بداية
رحلتها في سماء الصحافة العربية، وذلك مع بداية صدور العدد الأول من جريدة
“الزوراء” في الخامس عشر من حزيران العام 1869 والتي صدرت حينها باللغتين
العربية والتركية وبثماني صفحات، وكان من رموزها ومحرريها في ذلك الزمن
الأديب فهمي المدرس الذي كان يحرر القسم العربي فيها، ثم جاء من بعده
الشاعر جميل صدقي الزهاوي وأعقبه بعد ذلك الشاعر معروف الرصافي، ثم توالت
الصحف في عموم محافظات البلاد كجريدة “الموصل” في نينوى وجريدة “البصرة” في
محافظة البصرة، وكانت ايضا تصدر باللغتين العربية والتركية، ومرت الصحافة
العراقية بعدد من التجارب الى أن تأسست نقابتها بشكل رسمي في العام 1959،
وحفلت الصحافة العراقية بعد العام 2003 بمساحة واسعة من الحرية وعدد كبير
من الأسماء التي وجدت نفسها بصدارة الصحف بعد أن تخلصت من النظام الشمولي
الذي كانت خلاله جميع الصحف في خدمة الديكتاتور.
الباحث الدكتور عقيل الناصري يرى ان الصحافة العراقية لعبت دورا مهما في
نشر الوعي الاجتماعي بتجلياته الجمالية والحقوقية والسياسية والفلسفية
والدينية.. وبخاصة ما بعد الانقلاب العثماني في العام 1908، وبالأخص ضمن
فترات المخاض والتغيير، وعلى جميع الأصعدة، موضحا أن “هذا ما يتلمسه الفرد
في تاريخ الصحافة العراقية التي خاضت منذ سنوات فتوتها صراعا مستديما مع
واقعها ومحيطها الاجتماعي المتخلف بكل الأبعاد؛ ومع ذاتها الطامحة لبلوغ
أهدافها، رغم طابعها ذات المنزع الاستعجالي والمقترن بالأمنية التفاؤلية؛
وتصميمها على تغيير ذلك الواقع بما يتلاءم مع تطور بنائها”.
وبيّن الناصري انه “بسبب ذلك وجدت بصورة عامة مدرستان رائدتان في عالم
الصحافة نكثفها على وفق معيار قدرتها على تحقيق ذاتها وعلى القرب أو البعد
من الأماني الاجتماعية الحالمة بالتغيير، فهي أما منحازة للسلطة أو مناهضة
لتوجهاتها.. رغم تواجد عدة مجاميع في كل مدرسة إذا قسناها على وفق معايير
ثانية”، مشيرا الى أن “الصحافة كانت بمثابة المنبر وإحدى أهم وسائل التعبير
والتغيير، كذلك لعبت دوراً في إنضاج فكرة التغيير وحرث تربته رغم الظروف
الصعبة التي واجهت وتواجه عملها، فهي كانت ميدان الصراع بين الخير والشر،
بين الظالم والمظلوم، بين المحافظ والراديكالي، بين كل المتضادات الحياتية
التي عكستها هذه المرآة الصادقة خاصة إذا تمعنت بالموضوعية والمفاهيمية
العلمية.
وختم الناصري حديثه لـ”الصباح” بتحية لشهداء الصحافة وللكلمة الحرة ما دام الفراتان ينبضان بالحياة.
استعادة لحظات التمدن
الشاعر والإعلامي علي حسن الفواز يقول: إن “استعادة ذكرى صدور أول جريدة
عراقية، تعني استعادة لحظة من لحظات الحرية، ولحظات التمدن، إذ إن ما عاشه
العراقيون تحت الاحتلال العثماني يعكس كل مظاهر التخلف والتجهيل، وان
اقتران صدور هذه الجريدة بالوالي مدحت باشا لا علاقة له بالسياسة العثمانية
في بغداد، بل يعكس في جوهره طبيعة المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي
بدأت علاماتها واضحة، وأحسب أن التطور السريع الذي حدث في هذا المطبوع يمثل
تلك الحساسية الثقافية للنخب الإعلامية والمدنية والتجارية في بغداد”.
ويرى الفواز أن “مسؤولية استعادة ذاكرة الصدور ينبغي أن تكون حافزا
لاستعادة القوة المدنية التي دعت الولاية العثمانية لتأسيس جريدة (الزوراء)
والتي انعكست فيما بعد على صناعة رأي عام وطني له أدواره المعروفة في
الكثير من اللحظات السياسية الحاسمة، وفي حشد الجماهير إزاء كل مظاهر
الاستبداد والقهر الاجتماعي، وهو ما نحتاجه اليوم في توسيع مديات الخطاب
الإعلامي الوطني، لأن يكون دافعا وحافزا لتنمية رأي عام وطني وثقافي يتصدى
لتحديات المرحلة”.
احتفاء بالقلم الحر
الروائية والصحافية عالية طالب أكدت لـ “الصباح” أن “عيد الصحافة احتفاء
بالكلمة والمهنية والقلم الحر والحيادية والنزاهة الفنية، فهل كل هذا
يتوافر في الصحافة العراقية الآن؟ هذا سؤال يحتاج الى فهم واع لمعنى أن
نحتفي بالصحافة وأفرادها ونتاجها وتأثير هذا النتاج في المجتمع وعلى واقع
العملية السياسية اليوم التي لها تأثير في مجمل الحياة في العراق”.
وتمنت طالب أن تتخلص الصحافة من أجنداتها السياسية والمال السياسي والحزبي
الذي يفعل فعله في تغيير العديد من الصور الواضحة لجعلها مضببة واستبدال
الحقيقة بالزيف المقصود الذي جعل العديد من المتلقين يبحثون عن مصداقية
الخبر من قنوات ومنافذ غير محلية، وهذا ما عدته طالب مؤشرا سلبيا قد يفقد
المواطن مصداقية التلقي من المنافذ الإعلامية المختلفة.
مؤكدة “ضرورة عدم التغافل عن ظاهرة تبلورت سنة بعد أخرى منذ التغيير
السياسي في العراق وحتى اليوم والتي تتمظهر باتساع مساحة التواجد الإعلامي
التي أوجدت بالتالي فرق عمل من كلا الجنسين ومن شباب متميز استطاع أن يثبت
حضوره رغم افتقاده للتدريب الإعلامي المهني المفترض قبل أن يجد نفسه في
مواجهة الفعل الإعلامي والتعامل معه. في عيد الصحافة نتمنى أن نحقق ما
أشرنا إليه في بداية حديثنا لنكون جديرين بالاحتفاء بعيد الصحافة بحق”.
صحافتنا السرية وشهداؤها
الكاتب والإعلامي والباحث في جامعة “تامبرا” الفنلندية يوسف ابو الفوز بيّن
لـ “الصباح” أن “الاحتفال، بمناسبة، مثل يوم الصحافة العراقية، وتاريخ
صدور أول صحيفة عراقية، الزوراء، في الخامس عشر من حزيران العام 1869،
يستوجب أساسا التوقف عند مهام الصحافة العراقية، وأهمها حمل هموم الناس
والدفاع عنهم مهما كان الثمن”.
أبو الفوز أشار الى أن “هذا اليوم يدعونا لاستذكار التاريخ المشرّف للصحافة
العراقية، وخصوصا الصحافة السرية منها، صحافة الأحزاب الثورية الممنوعة من
العمل العلني، ومباشرة يخطر في البال، صحافة الحزب الشيوعي العراقي الذي
صدرت له أول صحيفة في 31 تموز العام 1935 باسم “كفاح الشعب”، موضحا ان
“كفاح الشعب” تعد أول صحيفة سرية عراقية، حيث كانت توزع سراً، ويتعرض
قراؤها وموزعوها، ناهيك عن العاملين فيها، الى أشدّ أنواع العقوبات من
الحكومات المرتبطة بعجلة الاستعمار البريطاني. وفي مختلف الحقب السياسية،
ومختلف الأنظمة التي حكمت العراق، توالت صحف الحزب الشيوعي العراقي في
الصدور، وبأسماء مختلفة، الشرارة، القاعدة، اتحاد الشعب، طريق الشعب، لكنها
ظلت دوما صوت الحزب المدوي في مقارعة الأنظمة الحاكمة”.
وأضاف ان “تلك الصحف بقيت حاملة لمطالب الشعب في حياة أفضل، حياة سعيدة في
وطن حر. وكانت “طريق الشعب” التي يصدرها الحزب الشيوعي، أول صحيفة عراقية
بعد سقوط نظام صدام الديكتاتوري توزع في شوارع بغداد بحسب قول ابو الفوز”.
طاقات هائلة بعد التغيير
الشاعر والصحفي علي أبو عراق أكد أن “الصحافة العراقية منذ تأسيسها مرت
بأطوار ومراحل مختلفة من الازدهار والاندحار، حسب مزاج الأنظمة والحكومات
التي تعاقبت على حكم البلد والتي امتدت من حكم الاستانة مرورا بالاستعمار
البريطاني والى عهد الطاغية صدام، والتي اتسمت في عمومها بهيمنة القبضة
الحديدية والاستبداد المفرط ما عدا محطات كانت بمثابة محطات استراحة بين
مرحلة وأخرى”، وأشار ابو عراق الى أن “تلك الفترات لا يمكن أن تحجب العتبات
المشرفة والعلامات البارزة في تاريخ الصحافة العراقية، والتي قارعت بروح
كفاحية عالية كل مظاهر القهر والاستبداد والجهل والتخلف التي شرعنتها
الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق والتي اتبعت سياسة تكميم الأفواه
وتغييب الأقلام الوطنية الحرة، حتى أوصلت بعضهم إلى مجاهل السجون
والمعتقلات والنفي والتشريد والموت احيانا”.
ويعتقد ابو عراق أن “العتبة الأهم في تاريخ الصحافة العراقية هي ما بعد
مرحلة سقوط نظام صدام الدكتاتوري في العام 2003، وانطلاق رحلة البحث عن
الحرية والتحولات الديمقراطية والتخلص من إرث الدكتاتورية والاستبداد،
والتي تستدعي طاقات وقدرات جديدة وناهضة وحرة للبناء الجديد للوطن والإنسان
والهوية الوطنية والتي انخرط في صفوفها فيلق كبير من الصحفيين المؤمنين
بضرورة وحتمية هذه التحولات، فضلا عما توفر من تقنيات جديدة ووسائل تواصل
واتصال جعلت من هذا العالم الشاسع جزيرة أو قرية صغيرة، ولا أبالغ إذا قلت
إن الصحفيين العراقيين كانوا على قدر هذه المرحلة التي أفرزت طاقات هائلة
وأصواتا واعدة كما ونوعا، وما يتوج هذه المرحلة الظافرة من الصحافة
العراقية هي دماء المئات من الصحفيين العراقيين التي سفحوها على مذابح
الحرية والعدالة وبناء الإنسان عبر الكلمة الحرة الصادقة والتضحيات التي لا
تضاهى، وهو سبب كاف يدعونا للاحتفاء بالصحافة العراقية في عيدها”.
الإرهاب واستخدام الإعلام
الزميل بشير الأعرجي رئيس تحرير صحيفة (الطريق) الصادرة من مكتب المفتش
العام لوزارة العدل قال: “نستذكر عيد الصحافة العراقية هذا العام مع غياب
العديد من زملائنا الذين استشهدوا أثناء تغطيتهم لمعارك القوات الأمنية
والحشد الشعبي ضد عصابات “داعش” الإرهابية، وهذا الغياب يؤكد أن دور
الصحافة أصبح أكثر خطورة من ذي قبل، خصوصا أن التنظيم الإرهابي يستخدم
الإعلام كأحد أسلحته، وبالتالي فإن مواجهته تتطلب وجود رجال شجعان، ممن
يحملون القلم والكاميرا بمساندة من يتأبط البندقية”.
ويرى الاعرجي ان “دور الصحافة العراقية بدأ بالتوسع وفق معطيات الحياة
ومتغيراتها، وهي مهمة ليست بالهينة، مع تحول منظومة الفساد الى غول مرعب،
يهدد مستقبل البلاد وكل ما يتعلق بتطبيق القانون. لا يسعنا مع حلول ذكرى
تأسيس الصحافة العراقية، إلا أن نقدم التحية لكل زملائنا الإعلاميين الذين
أخذوا على عاتقهم تحمل المسؤولية الأكبر في مواجهة التحديات الخطيرة،
وكانوا بالفعل جنودا مجهولين ينقلون الحقيقة كما هي، ويواجهون من يريد
بالعراقيين الأذى، من إرهابيين ومفسدين، فكل عام وأقلامنا الشريفة بكل
خير”.


