ثقافة وتعليم

ولادة في جدار

بغداد/ شبكه الساعه الاخباريه العراقيه.
حميد المختار
هذا الرجل أعرفه قبل أكثر من أربعين سنة حين كنا طلاباً في متوسطة المصطفى
في مدينة “الثورة” آنذاك. كنا نعد لعمل مسرحي نقدمه في قاعة المدرسة، وحين
بدؤوا بكتابة أسماء الممثلين، لم أكن أنا موجوداً فاحتاروا ماذا يكتبون، هل
يكتبون اسمي الثلاثي؟ فتذكروا أن والدي رحمه الله كان مختاراً في أحد
قطاعات المدينة، لذلك اقترح صديقي أن يكتبوا اسم حميد المختار وينتهي الأمر
لتبدأ رحلة طويلة بين المسرح والشعر والقصة والرواية.
اما صديقي عبد السادة جبار فكان هو الآخر رجل الأجناس كلها فهو ممثل ومؤلف
ومخرج ومتابع قل نظيره للسينما العالمية، وفي بيت المسرح العالمي التقينا
من جديد بعد مرحلة المتوسطة، فرأيته يؤدي أغاني وأناشيد من عندياته كلمات
وألحاناً وبصوته الذي يحاول أن يجد له مساحات في الفضاء الواسع حوله،
ولادات عبد السادة جبار كثيرة ومتنوعة وكل واحدة تختلف عن الأخرى، ففضلاً
عن كونه دمث الأخلاق وطيب المعشر وخفيف الظل، فهو فنان له حاسة ذوق منفردة،
اذن فبداياته كانت منذ بدايات سبعينيات القرن المنصرم مسرحياً في مراكز
الشباب وبيت المسرح العمالي.
وقد أسس بعد خروجه من المسرح العمالي فرقة “مسرح الحضارة” وقدم من خلالها
أعمالاً مسرحية مختلفة، ومع بدايات الحرب العراقية الإيرانية بدأت لديه
مرحلة اللاجدوى والهروب من المكارثية الصدامية كما يقول، حيث قضت تلك الحرب
المسعورة على كل آماله التي كان يحلم في تحقيقها سواء في المسرح أو في
الموسيقى والغناء والكتابة للسينما.كل شيء أحرقته سنوات الحرب العجاف وسحقته الوظيفة بعد ان سلمها قياده كبر
وكبر أولاده قبل الأوان وغزا الشيب رأسه نظراً لثقل المسؤوليات العائلية
الكبيرة على كاهله، لكن أحلامه في الكتابة لم تمت ولم تهن أو تضعف، فقد ظل
يواصل الكتابة ليشعر من خلالها بالحياة وهي تسري في عروقه كما لو كانت
الحبر الذي يرسم كلماته على الورق الصقيل، التي ستحقق خطواته التي يخطوها
في فراغ الزمن واللامكان، لكنه رسم الخطوات الثابتة، وهو الغريب والبعيد عن
تصنيف الأجيال سواء بين الفنانين أو بين الأدباء. فهو لم ينتم إلى أحد سوى
نفسه ومواهبه وفنه، ولم يكتف بذلك فبعد سقوط النظام المقبور كتب مسرحية ”
اعتصام الحمام ” وقدمها في مهرجان مونودراما العام 2005 ثم كتب مسرحية ”
كوابيس الأبيض” في كتاب وطبعه على حسابه، ثم أخيراً كتب مجموعة قصصية
عنوانها ” ولادة في جدار”، ونشرها هي الأخرى على حسابه الخاص، وبصدور كتابه
الأخير أثبت هذا الرجل عمق وعيه وأصالة مواهبه التي أضاف اليها موهبة
السرد، فصار كما النهر متدفقاً صافياً يجري، لأنه لو توقف لتحول إلى بركة
آسنة، وعبد السادة جبار يعي ذلك جيداً لهذا ظل عطاؤه متدفقاً بعيداً عن
الأضواء والإعلام والثرثرات والادعاءات الزائفة وصخب البراميل الفارغة،
لذلك رأيت أن أكتب عنه كرد لجميل قديم يستحقه هذا الرجل عن جدارة، فهو كما
بدأ بعيداً وواصل عطاءه وهو بعيد وسيظل بعيداً، لكنه سيبقى قريباً من
القلوب دائماً وأبداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى