مقالات

الحشد الشعبي وتجربة المقاومة الفرنسية

بقلم: رزاق عداي
 كانت الدبابات الالمانية المتفوقة من نوع “بانزر”
تنطلق في أقصى سرعتها وهي تنهب الارض الفرنسية من أقصاها إلى أقصاها، وخلال
أسبوعين فقط في بداية الحرب العالمية الثانية كان الوطن “الفرنسي” تحت
الاحتلال باستثناء بقعة صغيرة تركها الالمان للجنرال العجوز “بيتان”
للتفاوض بغية انشاء حكومة عميلة لهم.
وفي بداية الحملة على فرنسا كان الكولونيل الفرنسي المتحمس “ديغول” يطالب
بإلحاح الحكومة الفرنسية آنذاك لمنحة فرصة لمواجهة الألمان، ولطالما كان
يذكر الحكومة وينبهها للخطر الداهم الألماني طوال سنين مضت، وعندما وضعت
تحت أمرته فرقة للمشاة لم تصمد أكثر من ثلاث ساعات لتسحق أمام القوة
الألمانية الهائلة، وليمضي إلى المطار قاصداً بريطانيا، ليعلن منها ان
“فرنسا حرة” ويعلن بدء انطلاق المقاومة الشعبية للاحتلال الألماني، ويصبح
هذا التاريخ اشارة عظيمة للتجسيد الوطني الفرنسي على مر الأزمان، ففي هذه
اللحظة التاريخية اختفت كل الخلافات عند الشعب الفرنسي، فليس هناك
بروتستانت ولا كاثوليك ولا يسار ولا يمين ولا نزعة قومية ولا عصبية ، لقد
كانت “فرنسا” الوطن وحدها أمام العيون، فرنسا وحدها.
فعندما يتهدد الوطن وتتعرض الهوية للتهديد فهذا يشمل ويتسلل إلى الذات
الانسانية حتى بدلالتها الفردية الضيقة، والفرنسيون هؤلاء مولعون
بنرجسيتهم، ويرون أن هويتهم قد طعنت بالصميم، لذا هب الشعب الفرنسي تاركاً
خلفه كل شيء وتوجه للكفاح، ففي الحروب تكون هناك أولويات لا نجدها في
السلم.
وهكذا تحرك الشعب الفرنسي بكل زخم المقاومة وليدفع المحتل ثمناً باهظاً
إزاءها، لقد قاوم الفرنسيون بأشكال متنوعة حتى بالصمت، إذ تداول المقاومون
رواية فرنسية باسم “صمت البحر” عبرت عن اشمئزاز من الاحتلال من قبل عائلة
يسكنها جنرال ألماني كان يواجه بصمت مطبق من العائلة وعزف موسيقي يماثل
التضاد المتسامي للاحتلال، فكان لهذا الصمت والعزف المستمر للموسيقى ان ادى
بهذا الاخير المتغطرس الى أن يعيش في ظل الشعور بالدونية أمام شموخ الصمت
المقاوم.
لم تكن هناك شريحة فرنسية لم يكن لها حصة في هذه المقاومة وفي أية بقعة من
بقاع فرنسا، فمن هو بالشمال يقاوم بالجنوب والأمر عكسه، وقد أخفقت كل
التابوات والاحتقانات العرقية والعصبية بعرقلة الشعور الوطني. لقد كان
التهديد كلياً يشمل الجسد الوطني لفرنسا، والتشوه الذي أصاب الهوية
الفرنسية كان بالغاً، وامتد ليصل الثقافة والفكر ومجمل البنية القوفية
للكيان الفرنسي. لقد أنخرط في المقاومة مفكرون كان ينظر اليهم بريبة قبل
الحرب مثل الفيلسوف “سارتر” و “كامو” و”سيمون دي بوفوار” حيث أن اغلب آراء
وافكار هؤلاء تميل إلى بلورة الاحساس الفردي قبل كل شيء، وكان ظهورهم في
غمرة المقاومة ذا فعالية أعمق من ادعياء الوطنية ذوي الصوت العالي المزيف،
إذ كان لوجودهم في خضم المقاومة وحضورهم الفعال دوره الناجز والعملي في
تثوير شريحة عريضة وفعالة من الشعب الفرنسي، حتى أن “سارتر” تعرض للأسر عن
الالمان.
وعندما أنهارت ألمانيا في هجوم “النورماندي” الواسع ودخلت طلائع الجيش
الفرنسي الرسمي، لم يحصل أي تصادم أو تقاطع ما بين خطط الجيش في دحر
الاحتلال من جهة ونشاط المقاومة من جهة ثانية، بل الافضل القول بأن هناك
تناغماً وانسجاماً في الستراتيجية العامة لمكافكة الاحتلال الألماني،
فالمقاومة الشعبية كانت مصدر تدمير البنية التحتية للاحتلال ما يمهد للتقدم
وتحقيق الانتصارات، من هذا يمكننا أن نلاحظ التواشج ما بين المقاومة
الشعبية وانجازاتها والستراتيج العسكري، وكانت هذه الاحداث تجربة عظيمة في
مسيرة التحرير للوطن الفرنسي.
يمكن إلى حد كبير أن نلمس الكثير من نقاط التشابه بين تجربة الحشد الشعبي
الذي انطلق في أعقاب احتلال “داعش” لأراض واسعة من الوطن العراقي وبين
تجربة المقاومة الشعبية الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، فالتجربتان
كان الشعب مصدرهما وملهمهما والوجدان الوطني أساسهما في الفعل والمقاومة،
ورغم الاختلاف الهيكلي وشكل المقاومة، ولكن يبقى المسوغ واحدا في كليهما.
كما أن مقاومة الاحتلال وتعرض الهوية الوطنية للانتهاك هو ما يوحد ما بين
التجربتين، فالحشد الشعبي لا يؤسس وفقاً لسياق “ميليشيا”، لأنه انطلق بدعوة
مرجعية ومن عمق في الوجدان العراقي على العموم، وهذه الدعوة لا تنطوي على
لون طائفي أو ديني فقط وإنما هي استصراخ وطني في لحظة استثنائية تتعرض لها
الذات العراقية إلى اضطهاد يستدعي شحذ الهمم واستبعاد كل ما من شأنه أن
يشتت زخم المقاومة، فالذاكرة العراقية لا تزال حية وتستطيع أن تستحضر كل
وقائع ثورة العشرين، فمما لا شك فيه أن أغلب الدارسين وفي طليعتهم الدكتور
“علي الوردي” في كتابه “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث/ الجزء
الخامس” يفصل كثيراً في مجريات الثورة ويؤكد بقوة أن ملهمة الثورة كانت
دعوة دينية من النجف الأشرف تستنهض الشعب لمقاومة الاحتلال، لذلك ظل هذا
التقليد يخاطب الوجدان العميق للذات العراقية على مر السنين.
فالدرس الاول المستخلص من تجربة “الحشد الشعبي” أن قادته وفصائله وضعوا
المقاومة الوطنية للاحتلال الداعشي عند مستوى التعبير الاصيل عن المواطنة،
وعبروا عتبة الموت، واصبحوا مشاريع رائعة للوطنية بمعناها ليس السياسي
وإنما الوجودي، فالمفكر “رولان بارت” يقول “ان أية لغة مهما كانت لا تسمو
على لغة الثورة والمقاومة” فالمقاومون هم في غمرة وجود يشترط الدم والموت
والشهادة ، وهذا لعمري هو المشروع في أقدس أشكاله..
والدرس الثاني، هو أن الكل يعرف أن نشاط “الميليشيا” يهدم أسس الدولة
ويضعفها، وأفراد “الحشد الشعبي” تجاوزوا هذا بل لم يتركوا للمتخرصين فرصة
للانقضاض عليهم، وانضموا للدولة وارتبطوا بها رسمياً تحت أمرة القائد العام
للقوات المسلحة.
في وقائع ثورة العشرين لم تكن هناك أية نبرة طائفية تشوه وتعرقل التقاء
المتجسد في صفحات الثورة ووقائعها، فكان هنالك صوت عراقي واحد انبعث من عمق
الذات العراقية الموحدة، وكانت ثورة بكل معناها، أتت أكلها، فكان العراق
الحديث.
إن ما يخالط المقاومة الشعبية الآن متمثلة في تجربة “الحشد الشعبي” هو
هيمنة التوجس الطائفي الذي يخيم على الوعي السياسي بمسمياته المتعددة،
فالخطر الخارجي يكاد يكون واضحاً وماثلاً ويمكن تشخيصه بسهولة تامة، أما
الخطر الطائفي الذي يموج داخل الوطن، فهو يمكن أن ينشط ويتحرك بحرية حتى
ضمن المسارات الرسمية، وهو يعلن عن نواياه دون خشية.
فما قدمه “الحشد الشعبي” في ديالى وتكريت وغيرهما.. أحبط كل الادعاءات
والاكاذيب والمؤامرات ضد هذه الفعالية الوطنية، فلم تبدر من “الحشد الشعبي”
أية بادرة لتشير لأي متغير ديمغرافي قد مارسه في مكان ما بعد أن كان هذا
في مقدمة ما
يزعمه المعسكر المناوئ لـ”الحشد الشعبي”.
إن منتقدي “الحشــــد الشعبي” لا يستطيعون التمادي طويلاً في الرهان أمام
قوته فهو يراهن بالدم الساخن، وبقوة تحدي الموت، وعمق الايمان، وهم لا
يملكون سوى الادعاءات الجوفاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى