ثقافة وتعليم

العنف الأدبي

 د. حمد محمود الدوخي
مثَّل الأدب العربي، وأخصُّ منه الشعر ، في جزء كبير منه، حاضنةً عنفيَّةً
انْطلقت من تمجيد الذات والقبليَّة منذ (العصر الجاهلي) كما في عيِّنتنا
الـ(كلثومية) الممتلئة بعادات الصحراء الجافة والممحونة على الدوام:
إذا بلغ الفطام لنا صبيٌّ
تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
      وكذلك في قول الشاعر العربي الكبير (دريد بن الصمة) الذي أعلن صراحةً عن إلغاء عقله وتذويبه في نسق القبلية بقوله:
وما أنا إلا من غزية إن غوت
غويتُ وإن ترشدْ غزيَّةُ أرشدِ
      وبقي لهذه النزعة الانفعالية أثرها الفاعل، واستمرَّ حتى عصر الإسلام، كما يدلُّنا على ذلك (أبو ليلى نابغة بني جعد) حين قال:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا
وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
      فهنا العُرف الجاهلي بائنٌ بكل مواصفاتهِ، حتى أن الشاعر قبل
بالمقبوح من الوزن لكي يحافظ على مبثوثه الثقافي، وهكذا هو الحال في
التعنيف الأدبي الشعري، وبعد ذلك بدأ عهد قصائد مدح الملوك في حكومات أمية
وبني العباس، كما يصف لنا ذلك (أبو نواس) في صورة تهويلية ممتلئة بالابتعاد
عن مقبوليَّات العقل والمنطق والمُمكن:
وأخفت أهل الشرك حتى أنهُ
لتخافُك النطفُ التي لم تخلقِ
      واستمر البث بمنحاهُ هذا إلى عصرنا اليوم، عصرنا هذا عصر البوارج
وسفن الفضاء وعصر اللغة الالكترونية، هذا الاستمرار كان مبرراً لما لِنسق
التأصيل من هيمنة على لغة الشعر عربيَّاً، إذ نجد في هذا العصر الذي يحمل
هذه المواصفات الحداثوية الدقيقة، نجد من يقول، وبفخر جاهلي:
نحن الذين وهبنا الشمس رفعتها
وإن غضبنا تهاوى صرحُها حطما
      وتجاوز الأمر ذلك إلى مناطق تلقٍّ خطيرةٍ تتمثَّل بالشعر الموجه
لتربية الطفل؛ إذ استعاد الشاعر المعاصر، بعد أكثر من ألف وخمسمئة سنة،
صهوة (عمرو بن كلثوم) بمنبريةٍ جديدةٍ، فبعد أن بلغ طفلُ (عمرو) الفطام ها
هو شاعرنا المعاصر يعلِّمُ هذا الطفل أخبار القتال  والحرب، ويجهِّزه
للقتال لا للتعامل مع دفتره ومع العصافير:
عاد أبي
عاد أبي
من جبهة القتالْ
عاد لكي
يروي لنا
أسطورة الرجالْ
السؤال المراد من وراء ما قدَّمْناه من عَرْضٍ مكثَّف هو: ماذا سيُنتج لنا
مثل هذا البثِّ العُنْفي المستمر منذ مئات السنين، وبوتيرةٍ واحدة، لاسيما
أنه مستمر من خلال قناة الشعر العربي الذي يعد الأسرع في الوصول والتأثير
في الذهنية، بما يمتلكه هذا الشعر من مغريات، على مستوى الشكل، مثل إيقاع
الوزن والقافية، اللذين يمكن، في حال من الأحوال، أن يعدا نوعاً من التطبيل
الذي يشبه دور التوجيه السياسي في الحروب الخاسرة. نعم سينتج لنا هذا
البثُّ قارئاً/ متلقياً وإنساناً يعلم أن لا مكان له في عصرنا الحديث، بل
ويعلم أنه غير مشارك ، إطلاقاً، في صناعة هذا العصر، لذا يعود إلى مبثوثات
شعره من (العصر الجاهلي) إلى اليوم لأنه لا يمتلك مبرراً لوجوده غير هذه
المبثوثات المُعاقة. أجزم أن الأدب العربي، والشعر تحديداً، يمثِّل رافداً
يكاد لا ينضب من روافد مدِّ العنف، إنه لا ينضب إلا بعمليةِ تصدٍّ تتبناها
مؤسسة تبدأ بغربلة المكتوب وتحليلهِ منذ الانطلاقة الأولى لمثل هذه اللغة
الشعرية المُقامة بالكامل على تصوير الآخر على أنه ضعيف أمام الذات، إننا
نحتاج لذلك لكي نعرف أن الآخر ليس ضعيفاً، إنما هو ذاتٌ أخرى مشارِكة لكي
يُتِمَّ الوجودُ معناه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى