ثقافة وتعليم

سطوة الترييف على المدينة

نشرت مجلة “إمضاء” التي تعنى بفن القص في عددها التاسع قصة (صانع الجرار
التي لا تتحطم) للقاص محمد خضير سلطان… يظهر النص سطوة المكان ومؤثرات
البيئة في صناعة الإنسان أو تماهيه مع الطبيعة، النص يشي بصراع القرية، عبر
قيمها، وعاداتها، وأعرافها، وتقاليدها، مع المدينة، فبدلاً عن الصراع
الاجتماعي التقليدي بين المستغِلين والمستغَلين، نقل لنا برؤية انطباعية
الصراع بين القرية مع المدينة، الزمن المرجعي للنص ينحصر من العهد العثماني
إلى العام 1998 (اسبغها عليه استدارة قمر العثمانيين…) وزمن النص هو عمر
رجل السنن في بدايات القرن الماضي.

الاهتمام بالمكان

أفرد النص مساحات واسعة لتوصيف المكان في القرية، إذ ان الراوي في النص
يراقب مشاهد تمظهرات الحياة في القرية عن بعد، ثم بعد ذلك من المركز، إذ
يتحول الراوي الى جزء من المتن عبر جملة اعتراضية- الجد الذي انبثقت
عشيرتنا من صلبه وأصلاب إخوانه- فيصف التفاصيل الدقيقة للقرية عبر مفرداتها
ليبرر أسباب منعتها وعصيانها عن التحول والتغير (صياح الديكة وقوقأة
الدجاج، الذباب الملحاح، حوافر الخيل، حيازيم القوارب، عواء الذئاب، الصوف،
والطين، الرعاة، صناعة الحصران، استطالات القصب، أفواه الحيوانات،
الحظائر، وأسيجة الحقول، جدران المضائف، والأكواخ، صنعوا النايات، القصب
النافر، العتمة الكثيفة، الفؤوس والمجارف، قيعان القصب، شحوب نجمة القطب،
الشِباك، زنخ الأسماك، الظلام، العتمة، النور، والجرار، وحكايات
الأسلاف…). أسرف الراوي في سرد التفاصيل الكثيفة للقرية ليمنحها الهيمنة
في النص، اختار قرية نائية ملتصقة بالهور خالية من أي تمظهر مدني، فالقرية
تعيش من دون كهرباء أو أي بناء بالقرميد سوى الصرائف المصنوعة من القصب،
وحين أراد القول مثلاً، عكس عقرب الساعة أو باتجاهها لجأ إلى حركة المغزل
إذ قال:(يدور بعكس دوران المغزل) لينقلنا إلى عالم ما قبل الدولة إلى
المجتمع الطبيعي.

إحالة إلى الماضي

هذا السياق الدلالي يعبر عن بدائية القرية المختارة، وخلوها من أية إشارة
للمدينة، ليشكل هذا السياق فيما بعد أحد المفاتيح الرئيسة لفك شفرات النص ،
بعدها تأتي شخصية صانع الجرار والسنن، لتعزز هذه العزلة وتقوقعها فالشخص
لا اسم له لا يعرف إلا بالكنية المركبة من صانع الجرار والسنن، وكلا
الكنيتين تحيلاننا إلى الماضي، فالجرة علامة سومرية تحيلنا لعمق التاريخ،
لكنها في السياق الدلالي هنا، لا تشير إلى بعدها الحضاري، بل إلى قدمها
وماضويتها المفرغة من صيغ التحضر, كذلك السنن التي تعبر عن دستور القبيلة
لا تعني ارتباطها بمسلة حمورابي، بل عن بدائية تفرض القيم العصبوية على
حساب الدين والمدنية، فالإزاحة مستمرة عبر مشاكسة العلامات السيميائية التي
تحيلنا لعمقنا الحضاري، فبدلا من أن يندرج القصب ضمن هذا النسق، لكنه يصفه
بالضد إذ إنه يقول (إن القصب الخاوي…ولأنه تافه ولا يدجن، ولا يمكن
إحراقه) كذلك يصف الهور بأنه مهدد للقرية بشكل يوازي تهديد “الجنابر”
للمدينة، ولكن في النسق الحضاري يعد الهور مدينة “الإله إنكي” إله المياه
العذبة، وموطن أوتونابشتم ومنه عبر كلكامش وانكيدو،أي أن النص يشتغل بكل ما
هو يتعارض مع أية رمزية حضارية مؤثرة في المكان كما تشي به العلامات
المتعاقبة وزمن النص، فمثلاً الجرة مفرغة خاوية وتحولت إلى أداة للسخرية
(رفع سراعاً الجرة القريبة من عراها وركنها في مكانه الباذخ، طوى بظاهر
كفيه يشماغه وعقاله وتوج بهما فوهة الجرة ثم رفع عباءته …وألقاها على
ظهرها)، ثم خاطب الشيخ الجرة قال لها: (انتشري في الجامعات
والأكمات…تعثري بالجذور الخبيثة والكتب)، الجرة في بعدها المنظور تشكل
آلهة السكون والماضوية ( كان رجل السنن…حاملاً بعض جراره القديمة إلى
بغداد ليعجب بها مصور فوتوغرافي فيلتقط لها بعض الصور)، وفي بعدها الرمزي
الآني هي خلاصة تمثيلات للتقاليد والعادات والأعراف التي لا تتحطم.

رمزية الجرار

تتم استعارة الجرة كمعادل للشيخ، حينما خلع على الجرة عدته (طوى بظاهر كفيه
يشماغه وعقاله وتوج بهما فوهة الجرة ثم رفع عباءته …وألقاها على ظهرها)
لكن الشيخ يتجاوز الأمر بتعلم التحضيرات البروتوكولية على يد سائق! ثم
تحولت الجرار إلى رمز لرجال القرية (إلا أن جراره سيقت إلى قبو عميق ورميت
إليهم ذبيحة مشوية، ليبدأ النهش بعد أن تغلق الأبواب…) على الرغم من رياح
التغيير التي هبت على العراق في العام 1958 التي وصفت في النص على أنها
نزوة عابرة، إذ قرأ الشيخ الشاب آراء علي الوردي ومصطفى جواد ونوري جعفر
وشاهد مسرح العاني ولوحات جواد سليم وقرأ أشعار بلند الحيدري (إن كل كتب
العالم لم تستطع زحزحة رجل السنن، إنه الذي غمرنا بالقصب ثانية مثلما غمرت
الجنابر المدينة).

نزعة سوداوية

السوداوية هي السمة الغالبة على النص حتى في توظيف دلالة الإزاحة اللغوية
حتى انه وظف الفعل “انبجس” في أربع حالات بالضد من ما يعبر عنه المعنى
المعجمي للكلمة بوصفها تعني الولادة، التجدد، الخروج من الأسفل إلى الأعلى،
انبجس الماء من الأرض، انبثق، تدفق … لكن دلالته في النص مغايرة أولاً،
(حشد من الأسلاف ينبجسون من طين خفيض). ثانياً،(لتنبجس الجرار الخاوية من
طمى المدينة). ثالثاً، (ينبجسون من طمى المدينة بعد أن ألقتهم الجامعات
…الى الجنابر). رابعاً، (وينبجس التجشؤ من القماقم).

هناك تضاد بين رجل السنن الذي يعد (أبعد رجل عن التأمل) مع علي الوردي،
ومصطفى جواد، ونوري جعفر… ثقافة القصب (الهور) بالضد من سنن القرية
(بالرغم من أن المياه انحسرت منذ سنين …إلا أن المستنقعات طفقت تستعيد
هجومها الجديد…على شكل تبرعم سريع …الزاحف نحو البيوت الطين يداهم
المنافذ ويتخلل فراء السجاجيد…) ويمكن تأويل دلالة القصب بوصفه معادلا
للقيم والأعراف القروية، إذ هنا تلميح لحرق القصب وطمره بالتراب، لكنه على
الرغم من ذلك كان عصياً على الزوال يخرج من بين السجاجيد يلتف على حوافر
الخيل. هناك تضاد سكون “الجرار التي لا تتحطم” مع هدير العجلات التي تخطف
الأبصار. ينتهي النص والصراع بانتصار القرية على المدينة حين (غمرت الجنابر
المدينة وصارت أكثر من دكاكين البيع.) تأويل ذلك انه تم ترييف المدينة،
العاصمة، بغداد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى