ثقافة وتعليم

مسرحية «الكمين»… مشاحنات بالاحمر والاسود للمغربي محمد زيطان

القصر الكبير ـ «القدس العربي» محمد العناز: في إطار فعاليات الدورة
الثانية لمهرجان القصر الكبير الدولي للمسرح، الذي عرف مشاركة فرق مسرحية
من الجزائر وليتوانيا ومصر والمغرب، قدمت فرقة «مازاكان دراما» لربيع
الإبداع بمدينة الجديدة، عرضا مسرحيا متميزا، ترك صدى طيبا لدى الجمهور
الغفير، الذي حج لمتابعته، لاسيما وأنه من تأليف وإخراج أحد الأسماء
المعروفة بجدية مشروعها الفني على صعيد الممارسة المسرحية ليس فقط في
المغرب، بل أيضا على صعيد الوطن العربي. إن الأمر يتعلق بالمبدع محمد زيطان
الذي يبصم بصماته الفنية بكل ثقة وأصالة وانفتاح على كونية الفعل المسرحي،
فبعد أن اقترن اسمه كثيرا بفرقة «أبينوم» المسرحية، وبأعمال رائدة منها:
«غجر منتصف الليل»، «حدائق لــوركا»، «سيدة المتوسط»، «قصــــر البحر»..
نجـــده اليوم يشتغل في إطار فرقة دكالية، اختارت لنفسها اسم «مازاكان
دراما» كإحالة إلى العمق التاريخي لمدينة الجديدة المغربية. هكذا كان إذن
لجمهور المهرجان موعدا مع مسرحية «الكمين»، التي كانت كمينا بالفعل، أوقعت
المتلقي في دوامة درامية محبوكة بحرفية واضحة، زادها الاشتغال على عناصر
الفرجة المختلفة بلمسات إخراجية متميزة سحرا وجمالية، كسرا من أفق توقع
الجمهور، الذي اعتاد أنماطا مونوطونية من الأعمال المسرحية، التي يغيب عنها
العمق الدرامي للنص، وتتبنى بالمقابل تصورات تجريبية مجانية، خالية من
الطرح الفكري أو الفلسفي أو الجمالي.
مسرحية «الكمين» أو رحلة بالأحمر
والأسود ـ نظرا لطغيان هذين اللونين على الجانب السينوغرافي/المشهدي من
خلال اللباس والإنارة وقطع الديكور ـ هي باختصار رحلة إلى انحدار
الإنسانية… وهي عنوان لعالم بات يعرف تضليلا كبيرا… لتختفي الحقائق وتعلو
المصالح الفاسدة، في ظل العبثية التي أصبح يعيشها الواقع اليوم… مع كثرة
الحروب والجرائم والكوارث والأمراض الاجتماعية. نجد أنفسنا في المسرحية
أمام جريمة قتل وقعت، ثم مع مشروع جريمة أخرى، خطط لها بإتقان ولا ينقصها
سوى التنفيذ.. نصطدم بعالم من المصالح والتجاذبات والمشاحنات، الأمر لا
يتعلق هنا بعمل ذي منحى بوليسي، بقدر ما هو استنطاق لدواخل الكائن البشري
عموما، في سياق عالم متحرك وقاس ومراوغ… من نصدق.. ومن نكذب.. مع من
نتعاطف؟ لذلك تم استحضار شخصية نسائية هي السيدة «فرح» التي تقرر الانتحار
بطريقة احتفالية، مرغمة بمسدس جريمتها كلا من القطبي وقاسم على مقاسمتها
جنون لحظة انتحارها… رقصا وبوحا وعشقا وغضبا فنكتشف من خلالها أبشع أنواع
العذاب والمذلة التي يمكن أن تعرفها امرأة …عبر مشاهد قصيرة وحركية، اختار
لها الفنان محمد زيطان تقنية مشهدية سينمائية، تدعمها دراميا المؤثرات
الموسيقية والصوتية، التي انبنت في مجملها على إيقاعات متوحشة. تذكرنا
كثيرا بالإيقاعات الأفريقية أو تلك المستلهمة من فن كناوة المغربي. إن عمق
الفعل الدرامي الذي يختزنه النص، قاد محمد زيطان/ المخرج إلى الإنصات
والاقتراب أكثر من عوالم الشخصيات وعلائقها المختلفة، ثم تركيزه الشديد على
محورية الفضاءات وسمات الأزمنة مع مراعاة ثنائية الحركة والسكون، التي
شكلت إيقاع العرض في شموليته، حتى لكأننا أمام بندول ساعة درامية ضخمة،
خاصة أن شخصيات المسرحية الثلاث تتوزع بين المسالم المهادن والمناوئ
والخالق لصراعات عميقة، لذلك يمكننا أن نعتبر الممثل – روحا وجسدا – قوام
رؤية زيطان الإخراجية؛ لأنه جعله يتفاعل في هرمونية فنية مع باقي مكونات
العرض من سينوغرافيا وموسيقى وإنارة، فجعله بالتالي ينصهر في مكون الفضاء،
لا سيما من خلال جمالية المنظورات الخلفية، بوصفه عنصرا ركحيا يساهم بطريقة
مباشرة أو غير مباشرة في عكس المغزى الدرامي، وأيضا في تحقيق متعة لحواس
المشاهد. من جانب آخر، أولى العرض مساحة مهمة لعنصر الإلقاء والتشخيص
التفاعلي، ليس بهدف دمج المتلقي في المسرحية بمنطلقات كلاسيكية، تحقيقا
لمبدأ الكاتارسيس الأرسطي، بل بهدف تقريبه من خصوصية العملية المسرحية
برمتها من خلال تشكيلات وحركات نوعية وتلميحات رمزية؛ لأن هدف المخرج الأول
والأخير كان تقديم فرجة مسرحية تشبه القصيدة الشعرية الخاطفة، التي تجعل
المتلقي يعمل فكره، وأيضا تحقق له متعة روحية وجمالية حقيقية لا ترتبط فقط
بالتهريج والهزل. فمسرحية «الكمين» من هذا المنطلق، مسرحية تواكب عصرها
الفني والإبداعي بشروطه الجديدة، وبخصائصه الاستبدالية. مادام المؤلف/
المخرج يبتعد بنا من خلال كتاباته، التي طبعها بصبغة التفرد، عن الآراء
المختلفة حول جنس المسرح، التي لازالت تثار في بعض الأوساط الفنية، من قبيل
هل يتحكم فيه الجانب الأدبي من خلال مجال الكلمة أم الجانب المسرحي في
إطار الفضاء الدرامي البصري؟ لأن أعمال زيطان سلسة ومطواعة ومرنة، لا تراهن
على التقوقع النصي لتكون «أدب أريكة» بقدر مراهنتها على الخطاب المسرحي في
شموليته، وعلى الأثرين: الدلالي والجمالي. لذا فقد برهن محمد زيطان من
خلال «الكمين» على ذوبان المسافة بين مؤلف النص الدرامي الصرف، وشخصية
المسرحي العارف بأسرار الخشبة وبشروط التلقي المباشر، الذي لا يتقاطع مع
تلقي النص الأدبي إلا في نقاط قليلة، حيث تبدو نصوص زيطان وكأنها مكتوبة
للعرض أولا، لذلك فهي لا تهتم بالكم الذي يجعلها موغلة في عالم الحكاية
الدرامية، بقدر ما تهتم بالكيف، أو بالسبيل الأمثل الذي تنصهر فيه الأحورة
الدالة والمباشرة، برسم مشهدي عميق. ولعل مسرحية الكمين خير دليل على ذلك،
إذ برع صاحبها في محاربة الضجر، الذي يجر المشاهد عادة إلى ترك القاعة
معلنا بداية الفشل، وكأن المبدع محمد زيطان استوعب جيدا درس بيتر بروك حين
نعت الضجر بالشيطان، في قوله: «إن الضجر في المسرح مثل الشيطان، بإمكانه
أن يبرز وينبثق في كل لحظة، يكفيه أي شيء لكي يقفز عليك، فهو مترصد وشره،
إنه يبحث عن اللحظة التي يتسلل فيها بطريقة غير مرئية إلى الفعل، إلى
الحركة، إلى الجملة».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى