ثقافة وتعليم

استثمار الذاكرة المكانية

استثمار الذاكرة المكانية
تستعير مجموعة الشاعر منذر عبد الحر (أعمل الآن .. قرب مقبرة) أغرب التشبيهات التخييلية لبلوغ صفة الابتعاد بالمعنى إلى أبعد من راهنيته توسيعا لحدوده عبر اشتغالات موصولة بالاتساع وناجمة عن خبرة منفعلة بالحياة من جهة ومجبولة بالمعرفة المكانية ومرجعياتها من جهة أخرى. بهذا النحو فان المعنى المتمخض عن الاشتغال الشعري سيصبح وبشكل لا مناص منه مسكونا بدلالات متوارية تمثل كل ما يربض خلفه ما هو معلن، ولعل الأشد قطعا بهذا الصدد إمكانية أن تكون هكذا نصوص عرضة للتخمينات من قبل المتلقين لأنها توقظ إحساسا متخفيا على الدوام، فالنصوص لا تعلن كفايتها ولا تصل إلى منتهاها، انها مستغرقة في إدامة نفسها، مستغنية عما سواها، وتترتب على هذا الاشتغال توجهات اختلافية في المعنى والدلالة قائمة على توليد أغراض أخرى للمرئيات والأمكنة وبما يفوق الاعتيادي في الرؤية الشعرية: “في المساء الذي أفلت الليل من غرسه/ جلس الحب فوق نوح الخراب/ وشدا باكياً لصدى امسه”

نفهم مما سبق أن المعنى يقترن في قصائد المجموعة بالأسى اقتراناً دائماً مجسداً– غربة الانسان عن عالم لا يملكه، عالم يمتلك طوال الوقت مقومات استقراره، لاسيما في الأمكنة الأكثر فرادة التي تمثل دور الوسيط الذي بوسعه أن يحيل كل قراءة إلى أخرى للنص عبر آليات انفتاح المشهد على المشهد، بقصد اعادة التزود بمعاني المكان بوصفها عنصرا شعريا ينجم عن مكان بعينه، بل نستطيع القول بأنه شكل من أشكال الشعر المرتبط بالانتاج المكاني، وبمقدورنا الذهاب إلى أكثر من ذلك إذ لا نتورع عن القول: عملية انتاج الشعر في المجموعة تقوم على فكرة إلحاق الشعر بالمكان، وهو مفهوم اشتغالي يتيح الانفلات من أصل مكاني إلى آخر عبر استثارة الوظيفة الشعرية للمكان بانتظار أن تاخذ المعاني شكلا مكانيا في أرجح الأحوال:” المعاول ذاتها/ جرحت خد الارض/ فسالت منه طوائف وأضرحة”

ومن الدقة القول: المعاني على صلة وثيقة بالأمكنة، ولكن من الصعب تشخيصها لأنها معان غائبة ومتأهبة للتشكل على قدر الحاجة لها في النص، فالمعاني يمكن أن تعني معاني أخرى كونها معاني تنطوي على افتراضات بامكانها أن تؤسس أماكن مفتوحة للنص الذي لا يملك هو الآخر حدوداً خاصة به باعتباره إدراكا متغيرا يقوم على استثمار ذاكرة المكان والسمو بها الى مرتبة الدلالة لتصل بنا الى انتاج الشعر الناطق بالامكنة:” يا شجرة الروح/ولثغة حياتي التي طفلها يحبو/ يوم اطلقنا الفواخت معا/في سماء صغيرة/ التي لم نرها!”

ان المعنى هنا هو بمثابة ترويج لفعل المكان غير المرئي (جبال الوطن التي لم نرها!) ولعله ينطوي على الصورة المكانية للانفعال الشعري ليتكون من طبيعة أخرى تقوم على إلغاء حد من حدود العلاقة بين المرئيات وصولاً إلى اللمحة الشعرية الفطنة، فالشعر هنا لا يملأ أبعاد المكان حسب، وانما يعلن عبر الفضاء الشعري المزدوج (الأمكنة والمعاني) عن وجوده بصفة رمزيات يكون وجودها مكافئا لأنظمة المكان، بمعنى ان الشعر يتوق لتحويل المكان الى فكرة شعرية والعكس صحيح: “من شمس محمولة على الظهور/ ونهر جار في رؤوسنا/ من أيد محناة/ وعيون جارية/ وأمهات تحنطت أكفهن على خد السماء/ ادعية / ووصايا / وهدهدات للعائدين من السراب”

ومن خلال تحول المكان واتساعه لعالم الشعر، تظهر الصورة المفارقة للمشهد المنظور انطلاقا من مقطعين مكانيين مختلفين لكنهما متلازمان وهما (الحرب والمقبرة) انهما تمثلان مساحتين حرجتين وبعيدتين عن إيقاع المكان المعتاد حيث يلفهما المنظر القاسي، وبذا يتوجب على الشعر أن يترجم انفعالا قاسيا لمكان ما قد يتطلب رصد شعور الناس تجاه أنفسهم عندما تمضي الحياة بلحظة واحدة إلى الموت… عندها يكون للحس الحدادي دور كبير في استكناه هكذا أمكنة بوسعها أن (تجعل الحياة شبيهة بالموت) ووسط خراب متاح للجميع.

إن (المقبرة) وما يجري فيها يندرج في سياق شعري آخر حينما (يترافق الميت بمسيرة الحي) إذ يبدو المعنى أكثر بدلالته لو كان صامتا صمتا يماثل صمت المقبرة ذاتها، ان الجسد الانساني ليس سوى ظل بامكانه أن يعكس صورة الحياة التي مضت بلحظة واحدة ضمن مفهوم شبحي أو طيفي، غير أن (المقبرة) تبدو في قصيدة (أعمل الآن في مقبرة) مكانا فاعلا غير معطل ومتنكرا لجموده بل هي بمثابة رديف لجنون الحرب ودمارها، فالحرب والمقبرة أحدهما دليل على الآخر وموصول به، لذا فان النص وضع هاتين الظاهرتين في علاقة تجعل من المقبرة ملعباً للتخييل باعتبار أن الأمكنة وما تنتجه يرقى إلى مصاف الأشكال الشعرية، وهذا يعني أن المقبرة ليست صرحا تذكاريا انها تتسع لتداعيات البلاغة السمعية والبصرية. 

“أعمل الآن قرب مقبرة/ أروض حياتي/ عند الغروب ألوّح للقبرات/ وفي الصباح/ أركب دراجة يأس/ وأذوب في الناس/ لأجمع اثاث اليتامى/ وصخب الأرامل/ وعويل الموتى/ وأمضي بحزمة قلق/ إلى حبيبة صامتة/ تسألني بعينيها عن يوم آت/ لترى الدخان/ فتبني من بكائها بيتاً”

وهكذا نجد أن المكان في نصوص المجموعة بمثابة لغة متعددة الألسن وباعثة على خصائص شعرية تتشكل انطلاقا من اوجه المكان المختلفة، ما يجعلنا نعتقد بأن الشعر يكمن في الأشياء كلها ولا يستثني حتى الأمكنة القاسية مثل (المقبرة) التي تصبح في أحيان كثيرة جزءاً من مُتع المكان وتفلح في إثارة ديمومة إنتاج النصوص والبحث عن طرق جديدة في الإنتاج الشعري .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى