مقالات

الحروب العربية والعقل المستقيل

بقلم: علي حسن الفواز
يبدو أن استمرار تواصل العدوان على اليمن يعكس
مجموعة من الأزمات، مثلما يثير مجموعة من النوايا، وبعيدا عن حسابات
الطوائف كما يحلو للبعض أن يصنّف المواقف، فإن الأحداث تكشف عن مخاطر
محتملة قد تجرّ المنطقة العربية الى حروب مفتوحة، أو الى خنادق مغلقة،
خنادق طائفية لكنها محكومة بإرادت خارجية تغذيها وتسلحها وتدفعها باتجاه
المزيد من الحرائق والخرابات.
اولى هذه الأزمات هي محنة (العقل العربي) الذي بات عقلا مهددا، وخارجا عن
استعمالات القومي والتاريخي، لأن من يتحكم به الآن قوى الرجعية العربية،
والقوى الطائفية، والأنماط السلطوية الفاقدة لوعي الحداثة ومشروعيتها،
وبالتالي فإن ما يتأسس الآن وفي المرحلة المقبلة سيكون الأقرب الى العصور
المظلمة العربية، ولاعلاقة له بأي شكل للصحوة التي يتحدث عنها مثقفون
مأجورون وحكوميون وممن لا ضمير لهم.
الأزمة الثانية هي أزمة السلم الأهلي العربي، إذ باتت العلاقات العربية –
العربية محكومة بفوبيا الهويات والتقسيمات الطائفية، وربما حتى بالأسماء
ووثائق السفر، لأن المطارات والحدود لم تعد تستقبل من لا يحمل السمات
الطائفية المقبولة، وهذا ما يعني أن مفهوم الأمة العروبية قد فقد أهم شرط
من شروطه وهو موت اللغة المشتركة، وهشاشة الأرض المشتركة، والشك بالتاريخ
المشترك.
الأزمة الثالثة تتمثلها طبيعة العلاقة مع الآخر والتي ستخضع الى حسابات
القوة، والعرب الذين غابت عنهم القوة التاريخية بعد سقوط دولتهم العباسية
باتوا يلبسون أقنعة الآخرين الأقوياء، وأحسب أن هذه اللعبة ستتكرر كثيرا مع
التوزّع بين القناعين الأميركي والروسي، وهو ما يعني أن روسيا ستعيد إنتاج
عسكرتها وقوتها وشراهتها للمركزية، وسيجد العرب أنفسهم امام خيارات
اضطرارية للمشاركة في سرديات الحروب المفتوحة والايديولوجيات المفتوحة مقبل
المصالح العاطلة والثروات المنهوبة.
أزمة العلاقة مع الآخر ستزيد من الفقدانات العروبية كثيرا، لاسيما في
العلاقة المشوهة مع مفاهيم الإصلاح والتنوير والعلمنة، وحتى العلاقة مع
التاريخ والتراث ستكون ملتبسة وغامضة، لانها ستتمنهج وستُقرأ بعيدا عن
الموضوعية وعلى وفق المرجعيات الطائفية الضيقة، وهو مايعني تكريسا لإنتاج
مظاهر أكثر قسوة وتوحشا وكراهية للعنف والمركزة الطائفية، وطردا ممنهجا
للمكونات الأخرى، لأن من لايجيد الحوار حول هويته ويثق بها وبإنسانيتها،
سوف يفقد كل قواعد الحوار مع الآخر المختلف.
الأزمة الرابعة وهي الأخطر تتمثل في طبيعة الحاكميات التي ستتشكل في ظل هذه المعطيات، وكيف ستُدار فيها السياسات الخارجية والداخلية؟
وكيف ستحدد هوية هذه الدول، وماهي مهام جيوشها الوطنية؟ ومن سيحمي هذه
الدول من جماعات العنف الطائفي التي تحولت الى قوى أرضية مهيمنة؟
هذه الاسئلة تعني هيمنة تلك الجماعات على مرجعيات توصيف الدولة، وعلى
قرارها الوطني والإنساني، وستقوم بالإعلان عن تكفير الدولة الوطنية
والديمقراطية، وقطع العلاقة مع أية قيمة للحداثة، أي أن هذه الدولة ستكون
مصدرا لإنتاج العنف والكراهية والتكفير، وهو مايعني تهديدها للسلم العالمي.
ولعل مايحدث اليوم في اليمن وفي سوريا وفي البحرين وحتى لبنان هو مقدمات
لصعود هذه الجماعات الارهابية، ورهانها على أن تكون هي القوة المقبلة، وأن
نظرتها للدولة ستكون هي المهيمنة، ولترسيم حدود علاقتها مع الآخر، ولتغليب
الحسّ الطائفي على الحسّ القومي، وكذلك منع التعاطي مع الثقافات المختلفة
والاجتهادات المختلفة، وهو مايمثل إرهاصا لنشوء ديكتاتوريات مقبلة، وسيكون
شعارها الإعلان عن موت الدولة القومية وبدء عصر الدولة الطائفية.
النوايا وقلة الحيلة

البعض من زعماء الدول العربية – ملوكا أو أمراء أو رؤساء جمهوريات – يفكرون
بطريقة الحماية المؤقتة من أخطار افتراضية، اخطار لا تتعلق بالدولة، بل
بالايديولوجيا التي يمكن عدّها جزءا من اشتغالات (العقل المستقيل) لكن ليس
على طريقة محمد عابد الجابري، ونظرته الضيقة للعرفان والبيان، إذ يمثل
العقل المستقيل هنا صورة للعطالة وللجوء الى (هرمسيات) طائفية، والى
غنوصيات مشبوكة بوعي عاجر، ينطلق من رهاب خوف طائفي لا وجود له في الواقع،
والذي سيمثل تعطيلا كاملا لصناعة الدولة المدنية، ووضع الجماعات على حساب
المجتمع، من منطلق أن الجماعة هي العرق الصافي، والمجتمع هو الأعراق
المختلفة.
الحماية المؤقتة بقصد نية الدفاع عن وهم متخيل للأمة، يقود الى ممارسات
صيانية قهرية تكشف عن قلة الحيلة، لأنها بعيدة عن كل ستراتيجيات الدفاع
والحماية، وفاقدة لجديتها التي تقوم على أساس وجود أخطار حقيقية، وأحسب أن
استعادة بعض هذه التخيلات سيقودنا لمعرفة طبيعة العقل المستقيل
والعاطل..ففي الحرب العراقية الإيرانية كان شعار صدام (حماية الامن القومي
العربي) وظل الشعار لثماني سنوات صادحا ومدويا، بعدها تنازل عن كل الحدود
التي حارب من أجلها بما فيها يافطة الأمن العربي. واليوم يرفع المحاربون في
حرب (عاصفة الحزم) شعار (الأمن القومي العربي) على بلد لايعرف أن يهـدد
نفسه، وأظـن ان الحـرب ستنتهي مع التنازل عن وهـم الأمـن القومي العـربي.
نوايا الحرب قد لاتشبه نوايا السلم، لكنهما قد يشابهان حينما تتوفر الإرادة
الحقيقية والمسؤولية الواعية، عندئذ سيختار أصحاب الحرب حربهم، وأصحاب
السلم سلمهم، لكن أن يكون الخيار القلق على نوايا وتخيلات وسرديات، فإن
الأمر سيكون مثيرا للجدل، وللسخرية، وباعثا على إحداث المزيد من الفرقة بين
المكونات، وعلى مرجعيات طائفية وجماعاتية، فضلا عن أن هذه الحروب
المصنوعة!! ستعني إنتاج المزيد من الأزمات المجاورة، تلك التي تتعلق
بالانهاك الاقتصادي، وتدمير القيم الوطنية وتشويه التعليم والتنمية، وفقدان
القدرة على صناعة المعارضات السياسية التي تحتاجها كل الدول المدنية،
وربما سنضع أنفسنا تحت تقسيمات سردية جديدة واستشراقات جديدة للأقوياء
الكبار لكي يقسّمونا من جديد، ليس على اساس الدول والجغرافيات كما حدث عند
السيدين (سايكس وبيكو) بل على أساس طائفي وهوياتي، وهو ما يعني الحاجة الى
وجود فقهاء يضعون خرائط التقسيم قيد الاستعمال مع ضمانات للدول الكبرى بعدم
الإقدام على صناعة سرديات مضادة، أو حتى التورط بنوايا مضادة.

الحرب ومراثي
العقل المستقيل
خيارات الحرب كما يقول البعض هي تعبير عن أزمة داخلية، أو محاولة للتنفيس
عن أزمة وعي أو أزمة خيار، وما يحدث في عالمنا العربي قد يتمثله الاثنان!!
فإيقاع الحرب يدق طبوله من جنوب تونس الى جبال الجزائر الى غرب السودان
والى شمال مصر وشمال ليبيا والى دول الشرق العربي كلها. المحاربون في هذه
الحرب معروفون، ومسلحون بكل تقانات العنف الطائفي، مع تقانات الأسلحة
الأميركية..
هذه المفارقة تكشف عن أن فكرة الحرب ستكون هي عنوان المرحلة المقبلة، لأن
الغرب واميركا وتحت منهجية (حفريات المراكز) باتوا أكثر معرفة بقواعد
الاشتباك عند العرب، فهم لا يشتبكون على المعرفة ولا على التنمية ولا على
الحداثة والعلم والأسواق التجارية والقيم الثقافية، بقدر اشتباكهم
واختلافهم على أوهام التاريخ وسردياته التي لم تكتب بأخلاق صالحة، وتلك
الاشتباكات ستظل مؤجلة، أو مؤطرة بمراثي العقل المستقيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى