ثقافة وتعليم

بحر العلوم.. رحيل ذاكرة

عمامة سوداء بعقل ناصع البياض، وريث بحر من العلم وحاوي نهر من الشعر وسرب
من الابتسامات. الحديث عن العلامة الاديب الراحل السيد محمد بحر العلوم ليس
حديثا عن فقدان رجل دين فقط وإنما هو حديث عن رحيل ذاكرة بلد بكل تفاصيله
السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية، ذاكرة مفتوحة تماما لم تكتنز
بالمسلّمات فقط وإنما امتلأت بالآخر، فلم يتضمن سجل حياته اختلافاً مع أحد
ولم تمنعه عراقة نسبه وارستقراطية أسرته الدينية من الانسجام مع الجميع
الذين يعتقد كل واحد منهم انه الأقرب لبحر العلوم من ساسة وعلماء وأدباء
وفنانين وكل من يلتقيه.منفتح حد اعتقاد الآخر بأنه معه ودبلوماسي حد
الاقناع والاقتناع ومحبوب حد البكاء على غيابه ولو للحظات، يمتلك اسلوبا
ومنهجا مختلفا عن مدرسته التي خرج منها ولم يتخرج وفق نسقها ومعالم اصولها،
يمتلك ثروة الذاكرة المنقوعة بنكهته الخاصة حين يرويها.

ساهم في انتاج مدرسة النجف الشعرية في الثلث الأول من القرن الماضي وظل
لامعا بين أسمائها الكبيرة كمصطفى جمال الدين وأحمد الوائلي وآخرين، كما
واكب تأسيس الحركة الاسلامية دون ان ينتمي إليها رغم بقائه صديقا لها
ولغيرها من الحركات السياسية المعارضة لنظام الديكتاتور، لا يترك فراغا
إلاّ ويملأه، فقد خاض الحوارات والسجالات مع قادة العالم وصناع قراره
لإقناعهم بإسقاط النظام البعثي في العراق ودخل الى بلده على دبابة وطنية
دون الالتفات إلى صانعيها لأنه يؤمن بالفرصة التي تمر مرّ السحاب، لذلك لا
يؤمن بالانسحاب أمامها عكس غيره من السياسيين الذين عارضوا منهج التغيير ثم
سارعوا لركوب موجته.

اتذكر لقاءنا الاول به في زمن المنافي القاسية التي كان يجوبها بحثاً عن
عراقيين، إذ أخذني الرجل الى عوالم أخرى تختلف عن عوالم غيره من رجال الدين
يوم كنت طالبا للعلوم الدينية في حوزة “قم” متلقيا لمعارفها وعلومها
وأحاديث فقهائها. وجدت اسماعي تنشد إلى عمامة من نوع مختلف وإلى حديث عن
الفقه والأدب والحياة بلغة الشاعر والفقيه والسياسي، وبلسان نجفي مبين، وقد
كان الشاعر مدين الموسوي الذي اصطحبني معه مرات عديدة للقاء بحر العلوم،
كان يشاكسه ويذكره بحكايات وشواهد معتمدا على ذاكرته الشعرية قارئا عليه
بعض الأبيات التي ان تجاوز بها الحد المسموح رفع السيد بحر العلوم سماعة
أذنه استجابة لنداء عمامته التي لم تمنع من تسرب أبيات الموسوي الى أسماعه.
ها هو السيد محمد بحر العلوم يرفع سماعة أذنه ونظارته الطبية عن واقعنا
المر والمرير ليستمع الى نشيد الذاكرة والهدوء. تحية الى قلبه الابيض
وعمامته السوداء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى