الثقافة والتقشف
في كلف الدولة التخمينية، حين تنفذ مشاريعها الستراتيجية، والثقافة على هذا
الحال وهم زائل وظل كمالي زائف لا يخدم المرحلة الحالية، لأنه مبهرج وباذخ
واحتفالي لا يليق بالواقع المأساوي المرير الذي صرنا نعيشه بكل دقائقه
ومعانيه، فالحزن والكآبة والبكاء ومواسم الهروب من الفرح، كيف لنا أن
نختزلها ببضع سنين من الانتعاش والحرية الشائهة والضائعة بين مشاريع
استبطان لأحكام الموت والولوغ في جلد
الذات.
في أي أمر طارئ يدهم الحكومة ومؤسساتها، تكون الثقافة هي الضحية الأولى
التي ينبغي التضحية بها على مذبح الفداء، والمثقف بكل سلبياته سيشكو صعوبة
الحال، وربما سيشتم بعض المؤسسات الثقافية ودور النشر التي نصبت عليه وسرقت
أمواله مقابل طباعة رديئة لكتابه، وليس هناك من أفق مفتوح لوعي الثقافة أو
لثقافة الوعي، أين الصوت الصادح للمثقف العضوي الفاعل الذي يواجه كل هذه
العقبات؟ أليست الثقافة هي أسس وعي الساسة والفكر والمنطق والتاريخ؟ أليست
هي صورة البلد الحضارية التي انتشرت وعرفت بكل منتجاتها المعرفية؟
اسألوا الآن أي مسؤول أو مدير لأية مؤسسة حكومية، ماذا أعددت في جعبتك
لمواجهة هذا الكساد، وكيف تسهم في إنقاذ الثقافة من بؤر الموت والإفلاس؟
سيقول لك أنا مقيد، وليس معي أي معين مالي أو معنوي لمواجهة هذا الطارئ
الداهم، فقد ألغيت المهرجانات، وتأجلت إلى أزمان لن تجيء، وماتت المجلات
والصحف اليومية، ابتداءً من الحكومية وانتهاءً بالصحف المستقلة ، حتى صحف
الأحزاب المدعومة أصابها الهزال والضعف، وهي تحتضر الآن، وهذا ناتج عن هزة
بسيطة لبنية البلاد وثقافتها، حين هبطت أسعار النفط العالمية لأسباب ودوافع
سياسية واقتصادية، فما بالك لو ان النفط نفد أو ان بلدان العالم استغنت
عنه تماماً، حيث يقول الخبراء إنه في العام 2040 ستوشك آبار النفط العربي
على النفاد، وسيعود العرب إلى صحارى الحياة الأولى، وصيد المحار والأسماك،
وسينتهي عصر الرفاه وحروب النفط، وأول الاشياء التي ستسقط في طي النسيان هي
الثقافة، لكنها كثقافة منبثقة من حضارتها العريقة لن تنفد أو تموت بسبب
انتهاء النفط أو النسيان الحكومي، ربما ستعود إلى مواطن وجودها الحقيقية،
وربما سيتحرر المثقف إلى الأبد من هيمنة النفط ورعوية دوله المتاجرة
به..وستعود تلك الثقافة الى ذاتها المستلبة، وبقدر ما كان النفط مفيداً في
إنعاش الثقافة في بعض البلدان، سيكون سبب انتكاساتها في بلدان
أخرى.
لهذا وبمناسبة اخطبوط التقشف الذي احتل كل مرافق حياتنا، أدعو زملائي
المثقفين جميعاً إلى توحيد الصف والاتفاق على كلمة تنصف أنفسهم وثفافتهم في
وقفة ثابتة وقول رصين، أدعوهم أن يتحدوا في جبهة ثقافية حرة، لا تنتمي إلى
أحد سوى إلى ذاتها، والى الأرض التي ولدت عليها، فكروا معي لنصل إلى حل
ينصف ثقافتنا ويعطي قيمة لحياتنا المحاصرة بالموت والإفلاس.