مقالات

البحث عن مخارج للتنمية

بقلم: محمد شريف أبو ميسم
 أضحى مطلب تنويع الايرادات في اقتصادنا
الوطني أشبه بمزحة عصية على ذائقة بعض الاقتصاديين الذين يرون في سوء
الادارة المالية في البلاد وحجم الفساد الاداري والمالي – بجانب الأثر
البالغ للحرب على الارهاب وما خلفته قوى الظلام من شلل اقتصادي في بعض
محافظات البلاد – سببا مباشرا في ديمومة الاختلالات الهيكلية الموروثة
بجوار ما خلفته حالة انخفاض أسعار النفط من تراجع بنحو 15 بالمئة في حجم
الناتج المحلي الاجمالي خلال العشرة أشهر الماضية.. والسؤال الملح هنا هو:
هل من سبيل للخلاص من قاطرة المعوقات التي تعترض خطط التنمية التي تضعها
الحكومة؟ فيما تدور الامنيات بإطار الممكن في المحافظات الآمنة على أقل
تقدير، والتي تمتلك مقومات هائلة للشروع بتنمية حقيقية.
ولعل من بين الطموحات التي تملأ صدور المتفائلين من الاقتصاديين برغم حجم
التحديات، ان يتم تكريس بعض النجاحات المتحققة هنا أو هناك وتوسيع مدياتها
بهدف انتشال الاقتصاد من حالة التراجع، بجانب أهمية الاستفادة من الأخطاء
التي سجلت، اذ ان الفشل في القياسات الاقتصادية لا يخرج عن دائرة حساب
النفقات، فلكل فشل ثمة مصروفات، والكثير من النجاحات الاقتصادية عالميا كان
أساسها الاستثمار في تصويب الخطأ.. ولنا في الحالتين ما يمكن أن نستعين
به.. فتجارب النجاح النسبي كانت في مشاريع المبادرة الزراعية مثلا التي
أثبتت أهمية دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بجانب اهمية الدعم المقدم
للمشاريع الزراعية الكبيرة في تحقيق الأمن الغذائي للبلاد، اذ شهدت الاسواق
المحلية تحولا ملحوظا في مستويات المعروض في عموم المنتجات الزراعية بعد
أن كانت المنتجات المستوردة تغرق الاسواق، فلماذا لا نستعين في هذه التجربة
في القطاع الصناعي عبر اطلاق مبادرة صناعية تتبنى آليات المبادرة
الزراعية، ونستفيد من الأخطاء التي وقعت بها الجهات القائمة على تلك
المبادرة في تبني مثيلتها الصناعية؟.
وكذا الحال في بعض مشاريع الاعمار مثل مشروع مدينة “بسماية” الذي واجه
الكثير من الانتقادات بوصفه مقاولة وليس مشروعا استثماريا ، فيما ثبت
للجميع أن هذا المشروع المتعلق ببناء مدينة متكاملة تضم مائة ألف وحدة
سكنية، ناجحا بكل المقاييس على الرغم من عدم استلام الشركة المنفذة اكثر من
10 بالمئة من كلفة المشروع فيما قامت ببناء نحو سبع معامل عملاقة تتجاوز
كلفتها المبلغ المستلم بنحو ثلاثة أضعاف، بمعنى ان الشركة المنفذة دخلت في
هذا المشروع بوصفها مستثمرا ومقاولا في الوقت نفسه، فلماذا لا نستغل مثل
هكذا اسلوب بوجود هذ الشركة في قطاع السكن، او حتى في القطاعات الأخرى؟، اذ
عرفت الشركة المنفذة بتنوع أعمالها بوصفها شركة عملاقة لها باع طويل في
عموم القطاعات وفي مقدمتها قطاع البتروكيمياويات وبناء المعامل الصناعية
واعادة تأهيل المدن، وقد عرضت على أكثر من جهة ان يكون لها دور في اعادة
البناء بذات الاسلوب الذي تبنته في مشروع “بسماية”. وهكذا بالنسبة
للاستثمارات في القطاع النفطي الذي حقق نجاحات عادت بالنفع الكبير على
البلاد، فلماذا لا يمتد هذا الاستثمار في قطاع البتروكيمياويات في
المحافظات المنتجة للنفط؟.
من جانب آخر تتعدد لدينا التجارب الفاشلة التي انفقت من أجلها الاموال دون
جدوى، وخصوصا في القطاعات الخدمية والقطاع الصناعي الحكومي، ناهيك عن
المشاريع التي تتعدد فيها مفاصل وحلقات التنفيذ، والامثلة هنا كثيرة، اذ
تبدأ بفشل اعادة تأهيل شركات القطاع العام وتنتهي بفشل أبسط المشاريع
الخدمية ممثلة بتعبيد الطرق واقامة الارصفة التي سرعان ما تتعرض للحفريات
من جهات أخرى بسبب سوء التنسيق .. فلماذا لا نستفيد من هذه الأخطاء ونعيد
النظر بأنصاف المقاولين وأشباه الشركات والطارئين على قطاع الأعمال الذين
ساهموا في هدر المال العام جراء سوء التنفيذ وتكريس الفساد عبر منح الهدايا
والعطايا لموظفي الدولة لتمرير المشاريع الفاشلة وقبولها برغم عدم توفر
الحد الأدنى من المواصفات الفنية؟، ولماذا لا نعيد النظر بالنسبة للسياسة
المالية، ونقف وقفة جدية أمام القطاع المصرفي الذي لم يمارس دوره الحقيقي
في عملية التنمية؟، ولماذا لا نعيد تأهيل النظام الضريبي كما في الدول
الأخرى التي تعتمد نظام الضريبة التصاعدية، ونضع حدا لحالات التهرب
الضريبي؟، ولماذا لا نفعّل دور السياحة الدينية في جباية الأموال، مثلما
تفرض مثيلاتها على الزائرين العراقيين في الدول الأخرى؟، وجميع هذه
التساؤلات لا تبدو لها اجابات واقعية مقنعة تحول دون تحقيق مضامينها،
وبالتالي فاننا ازاء حاجة ماسة لمراجعة السياسة الاقتصادية في البلاد،
وازاء ضرورة ملحة لاعادة النظر بالآليات المتبعة في ادارة الملف الاقتصادي.
إن حالة الاحباط والتشاؤم التي تحف بتصورات بعض الاقتصاديين نابعة وعلى ما
يبدو من استمرار واقع التجاذبات بين الكيانات السياسية والذي اثر بشكل كبير
على ادارة الملف الاقتصادي وساهم في تعطيل التشريعات ومنع دخولها حيز
التنفيذ، علاوة على ما افرزته حالة التدهور الامني من مناخات طاردة
للاستثمار واستنزاف للايرادات العامة، مع ما ترتب من تداعيات جراء الأحداث
الأخيرة في المحافظات الشمالية والغربية وتراجع حجم الصادرات النفطية في
شركة نفط الشمال، ناهيك عن انخفاض أسعار النفط الذي أثر كثيرا على مستوى
الايرادات برغم ارتفاع معدلات الانتاج والتصدير من المنافذ الجنوبية، اذ
يبيع العراق يوميا ما قيمته 150 مليون دولار بعد أن كان يبيع ما قيمته 300
مليون دولار بنفس المعدل الانتاجي البالغ 3 ملايين برميل يوميا.. وبالتالي
فان مرد هذا التشاؤم ليست له علاقة بالمتاح من الفرص التنموية ولا المتاح
من الموارد والطاقات، وانما يعود الى علة العلل المتمثلة باستمرار التصارع
السياسي، وعلى القائمين على الملف الاقتصادي أن يجدوا مخارج من ديمومة اثر
التصارع على النشاطات الاقتصادية، اذ ان وظيفة علم الاقتصاد لا تقف عند
مراحل الاستقرار السياسي ، وانما تتجلى أهميتها في مراحل الأزمات للبحث عن
مخارج في مناخ التحديات، مثلما تخوض في الندرة بهدف تعظيم الموارد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى