ثقافة وتعليم

ما طبيعة مجتمعنا ؟

ما طبيعة مجتمعنا ؟

 لن أخوض طويلاً في تركيبة المجتمع العراقي، فقد درس هذا الميدان كثيرا، ولخص بمقولة مركزية هي ازدواجية الشخص العراقي، وهذه مقولة تحتاج لفحص منهجي أكثر دقة مما ورد في دراسات الوردي المهمة، ولكني أردت التنويه لظاهرة العنف التي يواجه بها هذا المجتمع منذ عقود. ودراسة هذه الظاهرة لا تقتصرعلى مظاهرها المعلنة؛ كالحرب ومواجهتها في الثمانينيات، والإرهاب ومواجهته الآن، ولا تقتصر على انتمائية الشخصية المزدوجة بين البادية والمدينة، إنما تتصل بآليات تشكل المجتمع العراقي وبنيته. لذلك يتجه السؤال عن ماهية هذه التشكيلات، والآليات التي يقوم عليها المجتمع.

والسؤال المنهجي: هل أن المجتمع العراقي مجتمعٌ حديث أم مجتمع تقليدي؟. والفروق بين الحداثة والتقليد واسعة، فالمجتمع الحديث “يكون شديد التشكل لا نجد فيه مجالاً من مجالات النشاط والممارسة الاجتماعية خلوا من التقعيد والقوننة، فكل مجال فيه خاضع للقواعد والقوانين والنظام، ومن ثمَّ فأي فعل للإنسان فيه هو فعل منظّم”. أما المجتمع التقليدي، فيمتاز “بضعف التخصص وضعف تقسيم العمل”، أي ضعف التمايز في مجالات التنظيم والتقعيد والقوننة، التي لا تخضع فيها جلّ الممارسات للمدونات القانونية، وللسنن والقواعد المعلنة، بل تتيح المجال لهيمنة العلاقات الشخصية، وللارتجال، ويجب على من يريد السيطرة في المجتمعات التقليدية، أن يتوافرعلى عبقرية في العلاقات الاجتماعية، وعلى حسن لعب خارق للعادة، أين طبيعة المجتمع العراقي من هذين التصنيفين؟ سيكون الناس بحكم آليات التشكل منساقين: إما أن يكونوا حداثيين؛ عندئذ تسيطر القواعد والقوانين على السياقات الاجتماعية، ويحظى النابغون والتقنيون والمثقفون والمخططون والحقوقيون بمكانة متميزة فيه، خاصة مؤسسة الجامعة، لأنهم تمثلوا قواعد اللعبة الحداثوية، وإما أن يكونوا تقليديين متخلفين وبمشروعات ذاتية، عندئذ تكون مجتمعاتهم تقليدية، .اين موطن العنف؟ أهو في المجتمع الحديث الذي تحكمه القواعد والقوانين ويكون الناس جميعهم فاعلين على تعبير بورديو؟ أم في المجتمعات التي تهيمن عليها الألعاب التي لا تخضع للقواعد وللقوانين؟ لن يكون الجواب صعبًا. والنتائج دائما ملموسة؛ ففي المجتمعات الحديثة يكون الإنسان فاعلاً، والفعل الاجتماعي ضد العنف، بينما في المجتمعات التقليدية، يكون الإنسان تحت هيمنة الغياب، وغياب القوننة والتقعيد والنظام يولد العنف.حينما فكر العراقيون بتحديث مجتمعهم، كانت ثورة تموز 1958 بداية لقوننة الحياة الاجتماعية وتنظيمها وتحديثها، حينئذ بدأ العنف، وكان أولاً داخل العراق، تمثل بتصفية الفئات السياسية والثقافية والتقنية التي فكرت بمجتمع حديث، وثانياً تمثل بتغييب الطبقة الوسطى العراقية وإجهاض مشروعها الحداثوي، وثالثا زُجَّ بالعراقيين في حروب عبثية، وصولاً إلى ظهور نماذج تكفّر كل النظم والقواعد والقوانين العلمية. هذا هو مسار العنف الذي مارسته شخصيات مهمتها تغييب التنظيم والقوننة والتقعيد، ثم تعمق بعد 2003 ليتوج المسعى لاحقاً بالعنف المنظم: أساسه “داعشي” المنشأ والأداة، وجزء منه ثقافي هو تعميم تشكليات المجتمع التقليدي، وكلا المسعيين ضد حداثة المجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى