مقالات

أوجاع تاريخية

بقلم: ياسين العطواني
 في الوقت الذي تبذل فيه الجهود لمداواة جراحات
الماضي، يحاول البعض النبش في مقابر التاريخ لاستخراج بعض الروايات
الملغومة، لتفجيرها في أوقات محددة، وقد استغل هذا البعض وسائل الإعلام
الحديثة للترويج لتلك الروايات، وهذا ما يمكن تلمسه بوضوح من خلال بعض
القنوات الفضائية، ومواقع التواصل الاجتماعي، فهؤلاء يحاولون دائماً
استدعاء الجانب السلبي من التاريخ، في حين ان تناول التاريخ كعلم ومنهج
يتطلب وعيا وتجردا عن الذات، بما يُفضي الى الطرح الموضوعي في معالجة الحدث
التاريخي. وبدلاً من ان يُستخدم التاريخ كأداة لتوجيه الشعوب وتربيتها،
نرى ان البعض يحاول اليوم جر التاريخ الى حلبة الصراع القومي والديني
والطائفي لتحقيق مآرب متفق عليها سلفاً.
وعادةً ما يُستدعى التاريخ في أكثر اللحظات قتامة، لكن المؤسف أن الكثير من
هذا الاستدعاء يأتي مزوراً ومغيباً للكثير من الحقائق التاريخية ويهدف
لتشويه الواقع، وهذا ما يظهر جليا من خلال بعض وسائل الإعلام المختلفة، وما
ينشر هنا وهناك. الأمر الآخر الذي يمكن ان يُدرج ضمن الاستدعاء السلبي
للتاريخ، هو التعكز على ما يمكن تسميته بالثوابت التاريخية التي تمثل
التاريخ الرسمي للملوك والسلاطين، وهو عبارة عن سرد تاريخي يتماشى مع اهواء
وميول الحاكم، والتي جرت العادة على تناقله عبر الأجيال باعتباره من
المسلمات التاريخية غير القابلة للطعن، ووضعت في ذلك أمهات الكتب
التاريخية. لقد كانت مادة التاريخ لدى البعض ولا تزال ملعباً وملاذاً
لترجمة طموحات مريضة، وخلق ثقافة تاريخية مزيفة، وفقاً لقواعد متطرفة
وجاهلة لاعلاقة لها بمنهج البحث التاريخي المعروف، فهذا البعض يقرأ التاريخ
لغرض واحد هو إعادة انتاج الأحقاد وإفساد العقول. وبطبيعة الحال فإن الأمر
يستوجت البحث عن آليات علمية وعملية للخروج من هذه الدوامة، وأعتقد ان
الحل يكمن في دراسة خط الانحراف بأمانة كاملة في تاريخنا، مع تشخيص هذه
الأخطاء ودراستها واستيعاب ما يمكن استيعابه من دروس. لقد آن الأوان لوضع
نهاية لهذه الأوجاع التاريخية التي بدأت تنخر من جسد الحاضر، وتبشر بانتشار
الحروب والأزمات بين أبناء المجتمع الواحد، وهذا يتطلب جملة من الاجراءات
وفي المقدمة منها، تنقية كتب التاريخ والتراث عموما من النصوص المفخخة التي
زرعت في بطونه وعلى صفحاته، ورفع الألغام الموضوعة على رفوف المكتبات،
والتي تحولت هذه الأيام من تلك الرفوف الى شاشات التلفاز، على يد ضيوف
تستضيفهم بعض القنوات الفضائية وقد جندوا من أجل توسيع هوة الانقسامات
التاريخية بين المجتمعات والشعوب. وكذلك التأسيس لثقافة انسانية تقوم علي
احترام الانسان، بعيداً عن خلفيته الثقافية. ويمكن ان يــُقر ذلك عبر مناهج
تعليمية تعتمد الخطاب الوسطي الذي يطرحه العلماء التنويريون، من خلال
التركيز على المشتركات الانسانية والدينية واحترام مقدسات بعضنا البعض، مع
انتهاج خطاب موحد، يَجمع ولا يفرق، ويعلو فوق الاصطفافات والميول العرقية
والدينية والطائفية، ليرتقي الى مستوى الخطاب الوطني والانساني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى